الفصـــــل الاول
اندفعت فينيتيا أديل روس إلى غرفة الجلوس خالية الذهن ، وقد ارتسمت على شفتيها الابتسامة التي اعتادت أن تخص بها أباها . وكانت جولة التسوق الناجحة التي قامت بها عصر ذلك اليوم ، قد ملأتها بهجة ومرحاً ، وجعلت عينيها بلونهما الأزرق الباهت تتألقان كالبلور الصافي .
بادرها أبوها قائلاً : " فيني .... ما الذي أخرك يا عزيزتي ؟ " لم يكن في صوته أي تعنيف ، بل دفء وحنان ، فهو طوال الثمانية عشر عاماً ، لم يؤنبها مرة بشكل جدي ولم تسمع صوته عالياً ، كما أنها لم تره وهو ينهض من مقعده ليقف بجانبها . وفجاءة لم تعد تضم الغرفة اللوحة الزيتية الكبيرة الحجم لوالدتها التي فقدتها وعمرها بضعة شهور و إنما احتل الغرفة رجل قلب الأمور رأساً على عقب .
" كارلو روسي " كانت نسيت تقريباً ، انه سيحضر لزيارتهم وأبعدت ذلك عن تفكيرها ، لان حضور حفيد عم أبيها لقضاء عدة أسابيع ضيفاً عليهم ، لم يجعلها في خطر الموت من اللهفة ،
و ألان ، في هذه اللحظة ، ساورها شعور بالقدر الذي لا مفر منه ، وتفهم له لم تعرفه من قبل . ولكن ثانية واحدة من عمر الزمن كانت كافية لكي تجعلها تعلم أنها تقابل الرجل الذي ستحبه طوال حياتها ، أو كما يقال ، الحب من أول نظرة .
كان يبتسم لها من آخر الغرفة ، ابتسامة كانت مزيجاً من التهذيب والاهتمام الذي يشوبه شيء من السخرية ، وكان والدها واقفاً بجانبها يمسك بيدها يضغطها قليلاً بيده وهو يقول : " تعالي حبيبتي وحيي كارلو " . فحولت عينيها الكحيلتين تنظران في عيني أبيها بارتباك ، وهي تتقدم منه وكأنه سيحل هذه الأحجية القديمة لها ، أو كأنها مشكلة في إمكانه أن يزيلها كما أزال من طريقها الصعوبات منذ ولدتها .
ولكن هذا لم يكن شيئاً بسيطاً ، بل غاية في الأهمية لا يصل إليه حب الأب آو سخاؤه في إغداق المال . لم يدرك ما الذي حدث ، لم يدرك الارتباك الذي هز أعماقها لهذه المفاجأة ولا الذهول الذي سمرها في مكانها . هو أيضا تملكه الارتباك لتصرفها هذا فهو لم يستطع أن يعرف ما الذي جرى لابنته المرحة الواثقة من نفسها لكي يبدو عليها الضياع بهذا الشكل وقال بشيء من نفاذ الصبر : " هيا .. صافحي ابن عمك " فا بتسمت له وقد استعادت كل ثقتها بنفسها ومرحها واقتناعها بجمال الحياة . وسارت إليه ، لتتحول ابتسامتها إلى انبهار صريح عندما مد كارلو روسي يده وهو يقول بصوت عميق تشوبه لكنة خفيفة : " ما دام والدانا أبناء عم فان قرابتنا نحن الاثنين هي من البعد بحيث لا تكاد تلحظ ." وتجاهلت يده الممدودة ، لتقف بدلاً من ذلك على أطراف أصابعها وتقبله على خده وهي تقول : " أن الإيطاليين يعتزون بأية قرابة مهما كانت بعيدة . " وتملكتها الدهشة وهي تراه يفوقها طولاً بحيث يشرف عليها رغم طول قامتها البالغ مائة وسبعين سنتيمتراً ، و أزداد شعورها بالأنوثة وهي ترفع وجهها أليه لتلتقي عيناها بعينيه السوداوين الواسعتين الرائعتي الجمال ، كان كارلو روسي رائعاً ، فقد سلب قلبها رغم رفعه لحاجبه بإشارة ساخرة . ولوت فمها الممتلئ وهي تقول له مستفزة بصوتها الذي تميزه بحة خفيفة سائلة : " من هو الذي ترك فيك اكبر الأثر منذ وصولك إلى هنا ؟ . " وكانت عيناها تتحديانه بمكر أن يعترف بأنها هي التي تركت فيه اكبر الأثر وتابعت تقول : " أم أن هذا السؤال مازال مبكراً ؟ ." وزمت شفتيها مظهرة الاستياء لأشارة عدم الاكتراث التي صدرت عن ذلك اللاتيني ، وسألته : " أظنها أول زيارة لك إلى انكلترا ، أليس كذلك ." أجاب : " أبداً فأنا أعرف بلادك جيداً .. لقد جلت في أنحائها أثناء دراستي الجامعية هنا ." كان جوابه رقيقاً مهذباً ولكنه بارد . وتمنت لو أنها قطعت لسانها قبل أن تلقي عليه هذا السؤال فقد تذكرت ذلك الصدع القديم الذي حدث بين فرعي . ويا ليت السبب كان شيئاً شاعرياً كأن يكون لأجل امرأة .. ولكنه كان سبباً مؤسفاً يتعلق بالأعمال . كانت فينيتيا بالغة الفطنة عندما يتعلق الامر بابيها ، فقد شعرت بمبلغ شعوره بالحرج لان يسكت عن حقيقة أن حفيد عمه قد سبق وأن امضي سنوات في انكلترا دون أن يكلف نفسه عناء زيارتهم من باب الاحترام .
وقال والدها : " سنتأخر في تناول العشاء هذه الليلة يا فيني فإذا كنتِ جائعة كالعادة فاطلبي من بوتي أن تصنع لك الشاي في المطبخ وحسب معرفتي فأن ثمة أكواما من المشتريات تملأ ارض القاعة ." وغطى تدخل والدها على سؤالها الأحمق ذاك وما تبعه من إحراج ما أشعرها بالامتنان ولكن هل كان من الضروري أن يأتي على ذكر شهيتها القوية للطعام ؟ هذا عدا عن عدم مقاومتها رغبتها العارمة في الشراء كلما ذهبت للتسوق في لندن ، وما كان لأبيها أن يكشف أمامه طباعها . نظرت بطرف عينها إلى كارلو ، كان يبتسم وكانت ابتسامته تلك مجرد التواء بسيط في زاويتي فمه ، وقد لاح شيء من التسلية في عينيه وكان هذا يكفي لكي تعلم بكل وضوح انه يراها مجرد طفلة . وتمتمت شيئاً ثم اتجهت نحو الباب وهي تفكر بغضب أنها ستثبت له .. لا بد أن تثبت له يوماً أنها ليست مجرد طفلة يتسلى بمرآها وصفقت الباب خلفها بعنف . كانت فينيتيا تدرك أنها تجتذب الأنظار أينما تكون وان نظرات الإعجاب من الرجال تتبعها في الشوارع والمطاعم والحفلات . فبآي حق آذن ينظر إليها كارلو وكأنها طفلة خارجة من المهد ؟ ولكنها ما لبثت آن اعترفت في قرارة نفسها وهي تجتاز القاعة التي كان جوها يعبق بشذا ورود الحديقة المنبسطة ولتي تشرف عليها منافذ القاعة تلك بأنه على كل حال رجل متميز . تذكرت فينيتيا أباها وهو يحاول أن يتذكر عمر كارلو الذي لم يكن قد رآه منذ كان يرتدي بنطلوناً قصيراً . هل عمره إحدى وثلاثون سنة أم اثنتان وثلاثون . ثم انه غير متزوج وهي تعرف هذا جيداً وهذا يعني أن له صداقات مع النساء اكثر من المعقول ما دام بهذه الجاذبية التي تفتن القلوب . ثم انه بالنسبة إلى النساء لايمكن أن يختار المراهقات طبعاً . لشد ما كانت تكره هذا اللقب ! لا بد أنهن ذكيات متزنات مستقلات الشخصية ولا يأكلن بنهم ، ويرتدين الملابس الأنيقة ولتي لا عيب فيها ، وهن كذلك حريصات على آلا يبعثرن مشترياتهن التافهة على ارض القاعة ، نساء لا يعقصن شعرهن في ضفيرة إلى الخلف ولا يبدين ببنطلون جينز مغسول وقميص مقفول فضفاض . لو تعلم أنها ستصعق لمجرد رؤيته لا ندفعت مباشرة إلى غرفتها لترتدي ثوباً افضل وتطلق شعرها كالحرير ، وتأوهت ، وقد فارقتها لأول مرة في حياتها ثقتها في نفسها وشعرت بالتعاسة . ولكن مشترياتها كان لها بعض الفضل في إعادة تلك الثقة . صحيح أنها أنفقت كل ما أعطاها أبوها ولكنها اشترت أشياء ممتعة حقاً ! كما أن لديها وقتاً كافياً قبل آن يحين موعد العشاء ، لتصلح من هندامها لتبدو أمامه في اجمل منظر لقد اعتادت دائماً أن تنال ما تريد فقد كان في إمكانها آن تؤثر على أبيها . كانت في منتصف السلم وهي تحاول جهدها أن تحكم إمساك العلب التي تحتوي مشترياتها ولتي كانت تفلت من بين يديها لتتبعثر هنا وهناك ، عندما رأت السيدة بوتس تهبط السلم . كانت بوتي امرأة بدينة قصيرة القامة مكنتها طبيعتها الوديعة المسالمة من آن تعالج أية صعوبة أو أزمة وقد أصبحت مديرة أبيها بعد موت والدتها المفجع مباشرة ، وما آن ابتدأت فينيتيا تتعلم الكلام حتى أصبحت تدعوها ( بوتي ) وهكذا اصبح هذا اسمها الذي يدعوها به الجميع .
وقالت بوتي وهي تأخذ منها هذا الحمل : " دعيني أساعدك " وعادت تصعد معها السلم لتلقي بها على سريرها وهي تقول : " لعلكِ أنفقت ثروة أخرى على كل هذا . " أجابت متجاهلة لهجة بوتي المتذمرة : " انك تعلمين أنني لا أستطيع المقاومة ." وتابعت وهي تفتح أحد تلك الصناديق قائلة " هذا إلى أنني اشتريت اجمل ثوب وقعت عليه أنظاري ." وأخرجت ثوباً من الساتان الأسود وهي تسألها : " ما رأيك ؟ أليس أجمل ثوب وقعت عليه أنظارك ؟ أليس هو فريد بشكله ؟ انه سيجعل عيني كارلو تخرجان من حدقتيهما ." فأجابت بوتي باستنكار : " انه يبدو رائعاً . إذا كنتِ تريدين رأيي ، فهو ليس لائقاً . وابن عمك اكبر واذكى من يهتم بما تلبسين فوفري جهودك ألان ... " واتجهت نحو الباب وهي تتابع : " ما رأيكِ بفنجان شاي وقطعة آو اثنين من الكعك بشكولاته ؟ يمكنك أن تتناولي ذلك في المطبخ وتخبريني عن بقية ما ضيعت فيه نقود أبيك ، بينما أنا أقوم بتجهيز العشاء ."
وتملك فينيتيا الأغراء إذ ليس ثمة من يصنع الكعك بالشكولاته كما تصنعه بوتي ، وسيسرها الحديث عن مشترياتها كما أن الغداء مر عليه وقت طويل ... ولكنها أجابت : " كلا ، شكراً يا بوتي سأنظم مشترياتي هذه ثم استحم لاحقاً ." كان قوامها ممشوقاً حسن الشكل لا عيب فيه ولكن أن لم تتحكم في شهيتها فستنتهي إلى أن تصبح بدينة تماماً . ومنحت بوتي ابتسامة حلوة ثم استدارت تنظم أشياءها . إذا كان للحب هذه المقدرة في جعلها تقاوم الأغراء أمام كعكة الشكولاته ، فمرحباً بالحب . ولكن للحب ناحيته الخطرة ، كذلك فهو يخفيها نوعاً ما ... وقد اعترفت لنفسها بذلك وهي في حوض الحمام المعطر . تعرف أنها كانت مدللة طوال حياتها ولكن ، عندما يضرب والدها بقدمه الأرض ، فتعلم انه مصر على ما يريد ، رغم كل محاولة من جانبها لتحمله على تغيير رأيه .
وهذا هو السبب في أن مواعيدها مع الأصدقاء كانت محدودة ، ومرافقوها يختارهم لها أبوها بنفسه بكل عناية هذا كله إلى جانب ثقافتها التي تلقتها في مدرسة محافظة تحت إشراف المدرسات المتزنات ، كان يعني انه حتى اكثر التلميذات عناداً ومهارة لا يمكن أن تتخطى الحدود لحظة واحدة . كما أن خبرة فينيتيا قليلة إلى حد مؤسف ، والمشاعر التي أثارها فيها كارلو روسي ، والطريقة التي قفز فيها قلبها حين وقعت أنظارها عليه أو كلما فكرت فيه ، ثم هذه المشاعر الحلوة التي أخذت تنتابها لدى تصورها لقاءه مرة أخرى حين تبدو بمظهر المرأة الناضجة وليس التلميذة الكبيرة الجسم ذات الضفيرة ، كان كل هذا جديداً عليها مما شعرت معه بكثير من البهجة وأيضا بشيء من الخوف . حتى سيمون كيرو الذي كان اكثر مرافقيها انتظاماً في اصطحابها خارج المنزل لم يستطع أن يجعل تفكر هكذا .
كان سيمون ذو الخامسة والعشرين منتصب القامة له جاذبية لا تذكر بشكله السكسوني الأشقر . وقد رقي أخيرا إلى رتبة مساعد شخصي لأبيها في الشركة وكان هو مرافقها المعتاد إلى الحفلات والسهرات التي لا يتمكن أبوها من حضورها . كان والدها يثق بسيمون تماماً ولا شك في عينيه كانتا ستبرزان من حدقتيهما لو علم أن فتاه الأزرق العينين هذا ، يحاول إغواء فتاته الغالية أما الذي لم يستطع آن يفهمه فهو أن فتاته في إمكانها العناية بنفسها كما في استطاعتها التملص من مغازلات سيمون فهي لم تكن لتهتم به حتى عندما عرض عليها الزواج وقد أخبرته بذلك ولا يمكن آن تخبر آباها برغبته إذ آن وضعه كمرافق لها سيتوقف حتماً لتجلس حبيسة المنزل إلى إن يجد لها أبوها فتى آخر يكون مرافقاً لها . وقررت وهي تبتسم راضية آن في إمكانها رعاية نفسها لكن رضاها سرعان ما تلاشى وهي ترتجف إذ تستعيد صورة عيني كارلو المتألقتين الخلابتين أنها لن تهتم أبدا برعاية نفسها إذا ما امتلأت تلك العينان العميقتان السوداوان بالعاطفة !. وكاد ارتداء ملابس العشاء آن يصبح مستحيلاً وهي في هذه الحالة فبعد آن مزقت زوجين من الجوارب السوداء المصنوعة من الحرير الخالص تمالكت مشاعرها لتهتم بما بين يديها حالياً صارفة اهتمامها عن مشاعرها المحيرة منذ وقعت عيناها على ذلك الإيطالي .
أثناء انتظارهما زيارة كارلو كان أبوها يأتي غالباً ، على ذكر الفرع الإيطالي من آسرتهم وكانت تستمع أليه على سبيل المجاملة متكلفة اهتماماً لم تكن تشعر به . لكن الأمور ألان أصبحت في غاية الأهمية فقد اصبح كل شيء يتعلق بكارلو موضع اهتمامها .
لقد انشقت الشركة منذ اكثر من مائة عام بعد آن جاء جدها الأكبر من إيطاليا إلى انكلترا لإنشاء فرع لها . ومنذ ذلك الوقت اصبح فرع الأسرة الذي انحدرت هي منه إنكليزيا وعندما نجحت الشركة في البيع بالتجزئة انتقل النجاح الى التصدير بالسفن . ولكن الفرع الآسرة الإيطالي ازدهرت أعماله هو أيضا فامتلكوا واحداً واربعين من الأسهم في الشركة البريطانية في الوقت الذي كانوا فيه يوسعون تجارتهم في إيطاليا وفرنسا أيضاً ، مقتنين المزارع حول فانسيا والفنادق المترفة في كل مدينة رئيسية حول العالم .
أما الذي جعل كارلو اكثر ثراء وقوة من أبيها فهو كما فهمت من حديث أبيها أن والد كارلو الذي كان مريضاً منذ عدة سنوات قد سلم مسؤولية إدارة إمبراطورية روسي عملياً آن لم يكن اسمياً ، إلى ولده كارلو .
والأكثر من ذلك آن زيارة كارلو كانت عبارة عن غصن الزيتون لينهي هذه الفترة من الجفاء التي استمرت منذ كان والدها صغيراً ، خصاماً حول مجموعة من الأسهم في قسم الشركة البريطانية . وأخذت تفكر حالمة وقد ساورها الاغتباط في أنها و كارلو لو تزوجا لتوحد الفرعان لتعود الشركة متحدة . وهذا غير مستحيل طبعاً . جلست تنظر إلى صورتها في المرآة وهي تفكر في أن ذلك محتمل تماماً . في هذه الليلة ستدع شعرها مرسلاً إلى خصرها تثبته إلى الخلف أمشاط مذهبة وستبالغ في وضع الزينة على وجهها ليبرز لون بشرتها الأشبه بالقشدة وكثافة أهدابها السوداء . أما ثوبها الغالي الثمن فقد كان يستحق كل قرش دفعته فيه ... هذه الليلة لن ينظر كارلو روسي إليها كمراهقة كبيرة الجسم .
جعلتها الثقة بالنفس التي تلازم أولئك الذين اعتادوا آن ينالوا كل ما يريدونه في الحياة بسهولة تهبط السلم بخفة وكأنها تطير طيراناً بحذائها الأنيق الخفيف ذي الكعب العالي . ورأت بوتي بمفردها في غرفة الجلوس الأنيقة التي بادرتها قائلة : " آن أباك في غرفة المكتبة مع ضيفه ولا أظنهما سيخرجان قبل موعد العشاء ثم أليس من الأفضل آن تضعي فوق فستانك بجاكتة أو ما أشبه ؟ ." .
اندفعت فينيتيا أديل روس إلى غرفة الجلوس خالية الذهن ، وقد ارتسمت على شفتيها الابتسامة التي اعتادت أن تخص بها أباها . وكانت جولة التسوق الناجحة التي قامت بها عصر ذلك اليوم ، قد ملأتها بهجة ومرحاً ، وجعلت عينيها بلونهما الأزرق الباهت تتألقان كالبلور الصافي .
بادرها أبوها قائلاً : " فيني .... ما الذي أخرك يا عزيزتي ؟ " لم يكن في صوته أي تعنيف ، بل دفء وحنان ، فهو طوال الثمانية عشر عاماً ، لم يؤنبها مرة بشكل جدي ولم تسمع صوته عالياً ، كما أنها لم تره وهو ينهض من مقعده ليقف بجانبها . وفجاءة لم تعد تضم الغرفة اللوحة الزيتية الكبيرة الحجم لوالدتها التي فقدتها وعمرها بضعة شهور و إنما احتل الغرفة رجل قلب الأمور رأساً على عقب .
" كارلو روسي " كانت نسيت تقريباً ، انه سيحضر لزيارتهم وأبعدت ذلك عن تفكيرها ، لان حضور حفيد عم أبيها لقضاء عدة أسابيع ضيفاً عليهم ، لم يجعلها في خطر الموت من اللهفة ،
و ألان ، في هذه اللحظة ، ساورها شعور بالقدر الذي لا مفر منه ، وتفهم له لم تعرفه من قبل . ولكن ثانية واحدة من عمر الزمن كانت كافية لكي تجعلها تعلم أنها تقابل الرجل الذي ستحبه طوال حياتها ، أو كما يقال ، الحب من أول نظرة .
كان يبتسم لها من آخر الغرفة ، ابتسامة كانت مزيجاً من التهذيب والاهتمام الذي يشوبه شيء من السخرية ، وكان والدها واقفاً بجانبها يمسك بيدها يضغطها قليلاً بيده وهو يقول : " تعالي حبيبتي وحيي كارلو " . فحولت عينيها الكحيلتين تنظران في عيني أبيها بارتباك ، وهي تتقدم منه وكأنه سيحل هذه الأحجية القديمة لها ، أو كأنها مشكلة في إمكانه أن يزيلها كما أزال من طريقها الصعوبات منذ ولدتها .
ولكن هذا لم يكن شيئاً بسيطاً ، بل غاية في الأهمية لا يصل إليه حب الأب آو سخاؤه في إغداق المال . لم يدرك ما الذي حدث ، لم يدرك الارتباك الذي هز أعماقها لهذه المفاجأة ولا الذهول الذي سمرها في مكانها . هو أيضا تملكه الارتباك لتصرفها هذا فهو لم يستطع أن يعرف ما الذي جرى لابنته المرحة الواثقة من نفسها لكي يبدو عليها الضياع بهذا الشكل وقال بشيء من نفاذ الصبر : " هيا .. صافحي ابن عمك " فا بتسمت له وقد استعادت كل ثقتها بنفسها ومرحها واقتناعها بجمال الحياة . وسارت إليه ، لتتحول ابتسامتها إلى انبهار صريح عندما مد كارلو روسي يده وهو يقول بصوت عميق تشوبه لكنة خفيفة : " ما دام والدانا أبناء عم فان قرابتنا نحن الاثنين هي من البعد بحيث لا تكاد تلحظ ." وتجاهلت يده الممدودة ، لتقف بدلاً من ذلك على أطراف أصابعها وتقبله على خده وهي تقول : " أن الإيطاليين يعتزون بأية قرابة مهما كانت بعيدة . " وتملكتها الدهشة وهي تراه يفوقها طولاً بحيث يشرف عليها رغم طول قامتها البالغ مائة وسبعين سنتيمتراً ، و أزداد شعورها بالأنوثة وهي ترفع وجهها أليه لتلتقي عيناها بعينيه السوداوين الواسعتين الرائعتي الجمال ، كان كارلو روسي رائعاً ، فقد سلب قلبها رغم رفعه لحاجبه بإشارة ساخرة . ولوت فمها الممتلئ وهي تقول له مستفزة بصوتها الذي تميزه بحة خفيفة سائلة : " من هو الذي ترك فيك اكبر الأثر منذ وصولك إلى هنا ؟ . " وكانت عيناها تتحديانه بمكر أن يعترف بأنها هي التي تركت فيه اكبر الأثر وتابعت تقول : " أم أن هذا السؤال مازال مبكراً ؟ ." وزمت شفتيها مظهرة الاستياء لأشارة عدم الاكتراث التي صدرت عن ذلك اللاتيني ، وسألته : " أظنها أول زيارة لك إلى انكلترا ، أليس كذلك ." أجاب : " أبداً فأنا أعرف بلادك جيداً .. لقد جلت في أنحائها أثناء دراستي الجامعية هنا ." كان جوابه رقيقاً مهذباً ولكنه بارد . وتمنت لو أنها قطعت لسانها قبل أن تلقي عليه هذا السؤال فقد تذكرت ذلك الصدع القديم الذي حدث بين فرعي . ويا ليت السبب كان شيئاً شاعرياً كأن يكون لأجل امرأة .. ولكنه كان سبباً مؤسفاً يتعلق بالأعمال . كانت فينيتيا بالغة الفطنة عندما يتعلق الامر بابيها ، فقد شعرت بمبلغ شعوره بالحرج لان يسكت عن حقيقة أن حفيد عمه قد سبق وأن امضي سنوات في انكلترا دون أن يكلف نفسه عناء زيارتهم من باب الاحترام .
وقال والدها : " سنتأخر في تناول العشاء هذه الليلة يا فيني فإذا كنتِ جائعة كالعادة فاطلبي من بوتي أن تصنع لك الشاي في المطبخ وحسب معرفتي فأن ثمة أكواما من المشتريات تملأ ارض القاعة ." وغطى تدخل والدها على سؤالها الأحمق ذاك وما تبعه من إحراج ما أشعرها بالامتنان ولكن هل كان من الضروري أن يأتي على ذكر شهيتها القوية للطعام ؟ هذا عدا عن عدم مقاومتها رغبتها العارمة في الشراء كلما ذهبت للتسوق في لندن ، وما كان لأبيها أن يكشف أمامه طباعها . نظرت بطرف عينها إلى كارلو ، كان يبتسم وكانت ابتسامته تلك مجرد التواء بسيط في زاويتي فمه ، وقد لاح شيء من التسلية في عينيه وكان هذا يكفي لكي تعلم بكل وضوح انه يراها مجرد طفلة . وتمتمت شيئاً ثم اتجهت نحو الباب وهي تفكر بغضب أنها ستثبت له .. لا بد أن تثبت له يوماً أنها ليست مجرد طفلة يتسلى بمرآها وصفقت الباب خلفها بعنف . كانت فينيتيا تدرك أنها تجتذب الأنظار أينما تكون وان نظرات الإعجاب من الرجال تتبعها في الشوارع والمطاعم والحفلات . فبآي حق آذن ينظر إليها كارلو وكأنها طفلة خارجة من المهد ؟ ولكنها ما لبثت آن اعترفت في قرارة نفسها وهي تجتاز القاعة التي كان جوها يعبق بشذا ورود الحديقة المنبسطة ولتي تشرف عليها منافذ القاعة تلك بأنه على كل حال رجل متميز . تذكرت فينيتيا أباها وهو يحاول أن يتذكر عمر كارلو الذي لم يكن قد رآه منذ كان يرتدي بنطلوناً قصيراً . هل عمره إحدى وثلاثون سنة أم اثنتان وثلاثون . ثم انه غير متزوج وهي تعرف هذا جيداً وهذا يعني أن له صداقات مع النساء اكثر من المعقول ما دام بهذه الجاذبية التي تفتن القلوب . ثم انه بالنسبة إلى النساء لايمكن أن يختار المراهقات طبعاً . لشد ما كانت تكره هذا اللقب ! لا بد أنهن ذكيات متزنات مستقلات الشخصية ولا يأكلن بنهم ، ويرتدين الملابس الأنيقة ولتي لا عيب فيها ، وهن كذلك حريصات على آلا يبعثرن مشترياتهن التافهة على ارض القاعة ، نساء لا يعقصن شعرهن في ضفيرة إلى الخلف ولا يبدين ببنطلون جينز مغسول وقميص مقفول فضفاض . لو تعلم أنها ستصعق لمجرد رؤيته لا ندفعت مباشرة إلى غرفتها لترتدي ثوباً افضل وتطلق شعرها كالحرير ، وتأوهت ، وقد فارقتها لأول مرة في حياتها ثقتها في نفسها وشعرت بالتعاسة . ولكن مشترياتها كان لها بعض الفضل في إعادة تلك الثقة . صحيح أنها أنفقت كل ما أعطاها أبوها ولكنها اشترت أشياء ممتعة حقاً ! كما أن لديها وقتاً كافياً قبل آن يحين موعد العشاء ، لتصلح من هندامها لتبدو أمامه في اجمل منظر لقد اعتادت دائماً أن تنال ما تريد فقد كان في إمكانها آن تؤثر على أبيها . كانت في منتصف السلم وهي تحاول جهدها أن تحكم إمساك العلب التي تحتوي مشترياتها ولتي كانت تفلت من بين يديها لتتبعثر هنا وهناك ، عندما رأت السيدة بوتس تهبط السلم . كانت بوتي امرأة بدينة قصيرة القامة مكنتها طبيعتها الوديعة المسالمة من آن تعالج أية صعوبة أو أزمة وقد أصبحت مديرة أبيها بعد موت والدتها المفجع مباشرة ، وما آن ابتدأت فينيتيا تتعلم الكلام حتى أصبحت تدعوها ( بوتي ) وهكذا اصبح هذا اسمها الذي يدعوها به الجميع .
وقالت بوتي وهي تأخذ منها هذا الحمل : " دعيني أساعدك " وعادت تصعد معها السلم لتلقي بها على سريرها وهي تقول : " لعلكِ أنفقت ثروة أخرى على كل هذا . " أجابت متجاهلة لهجة بوتي المتذمرة : " انك تعلمين أنني لا أستطيع المقاومة ." وتابعت وهي تفتح أحد تلك الصناديق قائلة " هذا إلى أنني اشتريت اجمل ثوب وقعت عليه أنظاري ." وأخرجت ثوباً من الساتان الأسود وهي تسألها : " ما رأيك ؟ أليس أجمل ثوب وقعت عليه أنظارك ؟ أليس هو فريد بشكله ؟ انه سيجعل عيني كارلو تخرجان من حدقتيهما ." فأجابت بوتي باستنكار : " انه يبدو رائعاً . إذا كنتِ تريدين رأيي ، فهو ليس لائقاً . وابن عمك اكبر واذكى من يهتم بما تلبسين فوفري جهودك ألان ... " واتجهت نحو الباب وهي تتابع : " ما رأيكِ بفنجان شاي وقطعة آو اثنين من الكعك بشكولاته ؟ يمكنك أن تتناولي ذلك في المطبخ وتخبريني عن بقية ما ضيعت فيه نقود أبيك ، بينما أنا أقوم بتجهيز العشاء ."
وتملك فينيتيا الأغراء إذ ليس ثمة من يصنع الكعك بالشكولاته كما تصنعه بوتي ، وسيسرها الحديث عن مشترياتها كما أن الغداء مر عليه وقت طويل ... ولكنها أجابت : " كلا ، شكراً يا بوتي سأنظم مشترياتي هذه ثم استحم لاحقاً ." كان قوامها ممشوقاً حسن الشكل لا عيب فيه ولكن أن لم تتحكم في شهيتها فستنتهي إلى أن تصبح بدينة تماماً . ومنحت بوتي ابتسامة حلوة ثم استدارت تنظم أشياءها . إذا كان للحب هذه المقدرة في جعلها تقاوم الأغراء أمام كعكة الشكولاته ، فمرحباً بالحب . ولكن للحب ناحيته الخطرة ، كذلك فهو يخفيها نوعاً ما ... وقد اعترفت لنفسها بذلك وهي في حوض الحمام المعطر . تعرف أنها كانت مدللة طوال حياتها ولكن ، عندما يضرب والدها بقدمه الأرض ، فتعلم انه مصر على ما يريد ، رغم كل محاولة من جانبها لتحمله على تغيير رأيه .
وهذا هو السبب في أن مواعيدها مع الأصدقاء كانت محدودة ، ومرافقوها يختارهم لها أبوها بنفسه بكل عناية هذا كله إلى جانب ثقافتها التي تلقتها في مدرسة محافظة تحت إشراف المدرسات المتزنات ، كان يعني انه حتى اكثر التلميذات عناداً ومهارة لا يمكن أن تتخطى الحدود لحظة واحدة . كما أن خبرة فينيتيا قليلة إلى حد مؤسف ، والمشاعر التي أثارها فيها كارلو روسي ، والطريقة التي قفز فيها قلبها حين وقعت أنظارها عليه أو كلما فكرت فيه ، ثم هذه المشاعر الحلوة التي أخذت تنتابها لدى تصورها لقاءه مرة أخرى حين تبدو بمظهر المرأة الناضجة وليس التلميذة الكبيرة الجسم ذات الضفيرة ، كان كل هذا جديداً عليها مما شعرت معه بكثير من البهجة وأيضا بشيء من الخوف . حتى سيمون كيرو الذي كان اكثر مرافقيها انتظاماً في اصطحابها خارج المنزل لم يستطع أن يجعل تفكر هكذا .
كان سيمون ذو الخامسة والعشرين منتصب القامة له جاذبية لا تذكر بشكله السكسوني الأشقر . وقد رقي أخيرا إلى رتبة مساعد شخصي لأبيها في الشركة وكان هو مرافقها المعتاد إلى الحفلات والسهرات التي لا يتمكن أبوها من حضورها . كان والدها يثق بسيمون تماماً ولا شك في عينيه كانتا ستبرزان من حدقتيهما لو علم أن فتاه الأزرق العينين هذا ، يحاول إغواء فتاته الغالية أما الذي لم يستطع آن يفهمه فهو أن فتاته في إمكانها العناية بنفسها كما في استطاعتها التملص من مغازلات سيمون فهي لم تكن لتهتم به حتى عندما عرض عليها الزواج وقد أخبرته بذلك ولا يمكن آن تخبر آباها برغبته إذ آن وضعه كمرافق لها سيتوقف حتماً لتجلس حبيسة المنزل إلى إن يجد لها أبوها فتى آخر يكون مرافقاً لها . وقررت وهي تبتسم راضية آن في إمكانها رعاية نفسها لكن رضاها سرعان ما تلاشى وهي ترتجف إذ تستعيد صورة عيني كارلو المتألقتين الخلابتين أنها لن تهتم أبدا برعاية نفسها إذا ما امتلأت تلك العينان العميقتان السوداوان بالعاطفة !. وكاد ارتداء ملابس العشاء آن يصبح مستحيلاً وهي في هذه الحالة فبعد آن مزقت زوجين من الجوارب السوداء المصنوعة من الحرير الخالص تمالكت مشاعرها لتهتم بما بين يديها حالياً صارفة اهتمامها عن مشاعرها المحيرة منذ وقعت عيناها على ذلك الإيطالي .
أثناء انتظارهما زيارة كارلو كان أبوها يأتي غالباً ، على ذكر الفرع الإيطالي من آسرتهم وكانت تستمع أليه على سبيل المجاملة متكلفة اهتماماً لم تكن تشعر به . لكن الأمور ألان أصبحت في غاية الأهمية فقد اصبح كل شيء يتعلق بكارلو موضع اهتمامها .
لقد انشقت الشركة منذ اكثر من مائة عام بعد آن جاء جدها الأكبر من إيطاليا إلى انكلترا لإنشاء فرع لها . ومنذ ذلك الوقت اصبح فرع الأسرة الذي انحدرت هي منه إنكليزيا وعندما نجحت الشركة في البيع بالتجزئة انتقل النجاح الى التصدير بالسفن . ولكن الفرع الآسرة الإيطالي ازدهرت أعماله هو أيضا فامتلكوا واحداً واربعين من الأسهم في الشركة البريطانية في الوقت الذي كانوا فيه يوسعون تجارتهم في إيطاليا وفرنسا أيضاً ، مقتنين المزارع حول فانسيا والفنادق المترفة في كل مدينة رئيسية حول العالم .
أما الذي جعل كارلو اكثر ثراء وقوة من أبيها فهو كما فهمت من حديث أبيها أن والد كارلو الذي كان مريضاً منذ عدة سنوات قد سلم مسؤولية إدارة إمبراطورية روسي عملياً آن لم يكن اسمياً ، إلى ولده كارلو .
والأكثر من ذلك آن زيارة كارلو كانت عبارة عن غصن الزيتون لينهي هذه الفترة من الجفاء التي استمرت منذ كان والدها صغيراً ، خصاماً حول مجموعة من الأسهم في قسم الشركة البريطانية . وأخذت تفكر حالمة وقد ساورها الاغتباط في أنها و كارلو لو تزوجا لتوحد الفرعان لتعود الشركة متحدة . وهذا غير مستحيل طبعاً . جلست تنظر إلى صورتها في المرآة وهي تفكر في أن ذلك محتمل تماماً . في هذه الليلة ستدع شعرها مرسلاً إلى خصرها تثبته إلى الخلف أمشاط مذهبة وستبالغ في وضع الزينة على وجهها ليبرز لون بشرتها الأشبه بالقشدة وكثافة أهدابها السوداء . أما ثوبها الغالي الثمن فقد كان يستحق كل قرش دفعته فيه ... هذه الليلة لن ينظر كارلو روسي إليها كمراهقة كبيرة الجسم .
جعلتها الثقة بالنفس التي تلازم أولئك الذين اعتادوا آن ينالوا كل ما يريدونه في الحياة بسهولة تهبط السلم بخفة وكأنها تطير طيراناً بحذائها الأنيق الخفيف ذي الكعب العالي . ورأت بوتي بمفردها في غرفة الجلوس الأنيقة التي بادرتها قائلة : " آن أباك في غرفة المكتبة مع ضيفه ولا أظنهما سيخرجان قبل موعد العشاء ثم أليس من الأفضل آن تضعي فوق فستانك بجاكتة أو ما أشبه ؟ ." .